الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية. كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس دعاته إلى الآفاق سنة مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز لما مر أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ذاهبا وجائيا من الشام من عند سليمان بن عبد الملك فمرض عنده بالحميمة من أعمال البلقاء وهلك هنالك وأوصى له بالأمر وكان أبوهاشم قد علم شيعته بالعراق وخراسان وأن الأمر صائر في ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فلما مات أبو هاشم قصدت الشيعة محمدا وبايعوه سرا وبعث دعاته منهم إلى الآفاق وكان الذي بعث إلى العراق مسيرة بن والي خراسان محمد بن حبيش وأما عكرمة السراج وهو أبو محمد الصادق وحيان العطار خال إبراهيم بن سلمة فجاؤا إلى خراسان ودعوا إليه سرا وأجابهم الناس وجاؤا بكتب من أجاب إلى مسيرة فبعث بها إلى محمد واختار أبو محمد الصادق إثني عشر رجلا من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهم وهم: سليمان بن كثير الخزاعي ولاهز بن قريط التميمي وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحة بن زريق الخزاعي وأبو حمزة بن عمر ابن أعين مولى خزاعة وأخوه عيسى وأبو علي شبلة بن طهمان الهروي مولى بني حنيفة واختار بعده سبعين رجلا وكتب إليه محمد بن علي كتابا يكون لهم مثالا يقتدون به في الدعوة وأقاموا على ذلك ثم بعث مسيرة رسله من العراق سنة اثنتين ومائة في ولاية سعيد خدينة وخلافة يزيد بن عبد الملك وسعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار فضمنهم قوم من ربيعة واليمن فأطلقهم وولد محمد ابنه عبد الله السفاح سنة أربع ومائة وجاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعاة خراسان فأخرجه لهم ابن خمسة عشر يوما قال: هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده فقبلوا أطرافه وانصرفوا ثم دخل معهم في الدعوة بكير بن هامان جاء من السند مع الجنيد بن عبد الرحمن فلما عزل قدم الكوفة ولقي أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن حبيش وعمار العبادي خال الوليد الأزرق دعاه غلى خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام ووشى بهم إليه فقطع أيدي من ظفر به منهم وصلبه وأقبل عمار إلى بكير بن هامان فأخبره فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابه: الحمدلله الذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم قتلى ستعد ثم كان أول من قدم محمد بن علي إلى خراسان أبو محمد زياد مولى همذان بعثه محمد بن علي سنة تسعة في ولاية أسد أيام هشام وقال له: انزل في اليمن وتلطف لمضر ونهاه عن الغالب النيسابورى شيعة بني فاطمة فشتى زياد بمرو ثم سعى به إلى أسد فاعتذر بالتجارة ثم عاد إلى أمره فأحضره أسد وقتله في عشرة من أهل الكوفة ثم جاء بعدهم إلى خراسان رجل من أهل الكوفة إسمه كثير ونزل على أبي الشحم وأقام يدعو سنتين أو ثلاثة ثم أخذ أسد بن عبد الله في ولايته الثانية سنة سبع عشرة أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريط بثلثمائة سوط وشهد حسن ابن زيد الأزدي ببراءتهم فأطلقهم ثم بعث بكير بن هامان سنة ثماني عشرة عمار بن زيد على شيعتهم بخراسان فنزل مرو وتسمى بخراش وأطاعه الناس ثم نزل دعوتهم بدعوة الحزمية فأباح النساء وقال: إن الصوم إنما هو عن ذكر الإمام وأشار إلى إخفاء إسمه والصلاة الدعاء له والحج القصد إليه وكان خراش هذا نصرانيا بالكوفة واتبعه على مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم وظهر أسد على خبره وبلغ الخبر بذلك إلى محمد بن علي فنكر عليهم قبولهم من خراش وقطع مراسلتهم فقدم عليه ابن كثير منهم يستعلم خبره ويستعطفه على ما وقع منهم وكتب معه إليهم كتابا مختوما لم يجدوا فيه غير البسملة فعلموا مخالفة خراش لأمره وعظم عليهم ثم بعث محمد بن بكير بن بان وكتب معه بكذب خراش فلم يصدقوه فجاء إلى محمد وبعث معه عصيا مضبية بعضها بالنحاس ودفع إلى كل رجل عصا فعلموا أنهم قد خالفوا السيرة فتابوا ورجعوا وتوفي محمد بن علي سنة أربع وعشرين وعهد ابنه إبراهيم بالأمر وأوصى الدعاة بذلك وكانوا يسمونه الإمام وجاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه والدعاء لإبراهيم الإمام سنة ست وعشرين ومائة ونزل مرو ودفع إلى الشيعة والنقباء كتابه بالوصية والسيرة فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم فقدم بها بكير على إبراهيم ثم بعث إليهم أبا مسلم سنة أربع وعشرين وقد اختلف في أوليته اختلافا كثيرا وفي سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد فقيل: كان من ولد بزر جمهر ولد بأصبهان وأوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى السراج فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين ونشأ بها واتصل بإبراهيم الإمام وكان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار فسماه إبراهيم الإمام عبد الرحمن وزوجة أبيه أبي النجم عمران ابن سمعيل من الشيعة فبنى بها بخراسان ووزوج إبنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب وابنته أسماء من فهم بن محرز فأعقب فاطمة وهي التي يذكرها الحزمية وقيل في إتصاله بإبراهيم الإمام أن أبا مسلم كان مع موسى السراج وتعلم منه صناعة السروج وكان يتجهز فيها بأصبهان والجبال والجزيرة والموصل واتصل بعاصم بن يونس العجلي صاحب عيسى السراج وإبني أخيه عيسى وإدريس ابني معقل وإدريس هو جد أبي دلف ونمى إلى يوسف بن عمران العجلي من دعاة بني العباس فحبسهم مع عمال خالد القسري وكان أبو مسلم معهم في السجن بخدمتهم وقبل منهم الدعوة وقيل لم يتصل بهم من عيسى السراج وإنما كان من ضاع بني العجلي بأصبهان أو الجبل وتوجه سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريط وقحطبة بن شبيب من خراسان يريدون إبراهيم الإمام بمكة فمروا بعاصم بن يونس وعيسى وإدريس ابني معقل العجلي بمكانهم من الحبس فرأوا معهم أبا مسلم فأعجبهم وأخذوه ولقوا إبراهيم الإمام بمكة فأعجبه فأخذه وكان يخدمه ثم قدم النقباء بعد ذلك على إبراهيم الإمام يطلبون أن يوجه من قبله إلى خراسان فبعث معه أبا مسلم فلما تمكن ونوى أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس وكان من أولية هذا الخبر أن جارية لعبد الله بن العباس ولدت لغير رشدة فحدها واستعبد وليدها وسماه سليطا فنشأ واختص بالوليد وادعى أن عبد الله بن عباس أقر بأنه ابنه وأقام بالبينة على ذلك وخاصم علي بن عبد الله في الميراث وأذاه وكان في صحابته عمر الدن من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها سليط بالخبر فاستعدت الوليد على علي فأنكر وحلف فنبشوا في البستان فوجدوه فأمر الوليد بعلي فضربه ليدله على عمر الدن ثم شفع فيه عباد بن زياد فأخرج إلى الحميمة ولما ولي سليمان رده إلى دمشق وقيل: إن أبا مسلم كان عبدا للعجلين وابن بكير بن هامان كان كاتبا لعمال بعض السند وقدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا وبكير معهم وكان العجليون في الحبس وأبو مسلم العبسي بن معقل فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه واستحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم وبعث به إلى إبراهيم الإمام فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج من الشيعة فسمع منه وحفظ وصار يتردد إلى خراسان وقيل كان لبعض أهل هراة وابتاعه منه إبراهيم الإمام ومكث عنده سنين وكان يتردد بكتبه إلى خراسان ثم بعثه أميرا على الشيعة وكتب إليهم بالطاعة له وإلى أبي سلمة الخلال داعيهم بالكوفة يأمره بإنفاذ إلى خراسان فنزل على سليمان بن كثير وكان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ثم جاء سليمان بن كثير ولاهز بن قريط وقحطبة إلى مكة سنة سبع وعشرين بعشرين ألف دينار للإمام إبراهيم ومائتي ألف درهم ومسك ومتاع كثير ومعهم أبو مسلم وقالوا: هذا مولاك وكتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمان الخلال وهو رضى فكتب إليه إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه وصدقوه وبعثوا بخمس أموالهم ونفقة الشيعة للإمام إبراهيم ثم بعث إبراهيم في سنة ثمان وعشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان وكتب له: إني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا وقد أمرته على خراسان وما غلبت عليه فارتابوا من قوله ووفدوا على إبراهبم الإمام من قابل مكة وذكر له أبو مسلم أنهم لم يقبلوه فقال لهم: قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله وكان عرضه على سليمان كثير ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا وإني قد أجمع رأيي على أبي مسلم وهو منا أهل البيت فاسمعوا له وأطيعوا وقال لأبي مسلم: إنزل في أهل اليمن وأكرمهم فإن بهم يتم الأمر وآتهم البيعة وأما مضر فهم العدو والغريب واقتل من شككت فيه وإن قدرت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل وارجع إلى سليمان بن كثير به مني وسرحه معهم فساروا إلى خراسان.
|